أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الجُزْءُ الثَالِث: مِنْ نُزُول الوَحْي حَتَى الهِجْرَة (مَرْحَلَة الدَعْوَة المَكِيَة)
الفصل الثالث والثلاثون
اسلام "على بن ابي طالب"
نزلت سورة الفاتحة، ونزل التشريع بالصلاة، ووقف الرسول يصلى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والسيدة خديجة تصلي خلفه، وكان على بن أبي طالب –رضى الله عنه- في بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرآهما على بن أبي طالب يصليان فتعجب من هذه الصلاة، وسأل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- : ما هذا ؟ فأخبره الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الاسلام، وعن عبادة الله وحده
وبرغم من أن على كان عمره لا يتجاوز العشر سنوات ولكنه كان صبيًا ناضجًا، فطلب من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يستشير أبوه "أبا طالب" ولكن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن يري أن هذا هو الوقت المناسب لعرض الاسلام على أبو طالب، فقال له الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يا عليّ، إن لم تسلم فاكتم
فأخذ "على بن ابي طالب" يفكر في الأمر طوال الليل، فلما كان الصباح ذهب الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأسلم
اسلم على بن ابي طالب ولم يتجاوز عشرة اعوام
أسلم أيضًا على الفور بنات النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زينب ورقية وأم كلثوم، ولكن كانت فاطمة صغيرة فقد كان عمرها سنة، وكانت "زينب" عمرها عشرة سنوات، و"رقية" سبعة سنوات، و"رقية" خمسة أعوام
وأسلم "زيد بن حارثة" وقد ذكرنا قصته، وقد كان في بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان اسمه في ذلك الوقت "زيد بن محمد"
وأسلمت "بركة بنت ثعلبة" والتى عرفت بعد ذلك باسم "أم أيمن" مربية الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد كانت أيضًا في بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وهكذا أسلم كل من كان في بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن كل من في بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلمون أن أخلاقه هي أخلاق نبي، والرجل اذا شهدت له زوجته وأهل بيته فلابد أن تصدق هذه الشهادة، لأنه اذا تجمل أمام كل الناس فلن يتجمل أمام أهل بيته، واذا كان يلبس قناعًا أمام الناس، فلابد أن يخلع هذا القناع فور دخوله من باب بيته
اسلم كل من في بيت الرسول صلي الله عليه وسلم
تحرك "أبو بكر" في الدعوة
بدأت الدعوة الى الاسلام في سرية، وبدأ أبو بكر يتحرك في الدعوة، وقام أبو بكر بعمل عظيم في الأسبوع الأول من الدعوة، حيث أسلم على يده خمسة من العشرة المبشرون بالجنة، وهم:
عثمان بن عفان، وكان في الرابعة والثلاثون من عمره
عبد الرحمن بن عوف في الثلاثين من عمره
سعد بن أبي وقاص وكان في السابعة عشر من عمره
الزبير بن العوام وكان في الثانية عشرة من عمره
طلحة بن عبيد الله في الثالثة عشرة من عمره
فضل أبو بكر على الأمة
وقد سمعت تعليقًا رائعًا من أحد الدعاة على هذا الأمر حيث قال متسائلُا: من معلوماته عن الاسلام أكبر، أنت أم أبو بكر في الأسبوع الأول من نزول الوحي ؟ لا شك أن معلوماتك أنت أكثر، ومع ذلك أبو بكر أسلم على يديه خمسة في أسبوع واحد أ. هـ
وأنا أقول: ما الفرق بينك وبين أبو بكر ؟ لماذا لو وضع ايمان أبو بكر في كفة ووضع ايمان الأمة في كفة لرجح ايمان أبو بكر ؟ الفرق بين أبو بكر وغيره من الأمة كلها، ليس كثرة الصلاة ولا قراءة القرآن، لا شك أن هناك من هو عبادته أكثر من عبادة أبو بكر، ولكن أبو بكر تميز عن الأمة كلها بقلبه
أبو بكر كان عنده الهم للدين، ولذلك أسلم على يديه خمسة في أسبوع واحد، أبو بكر سمع قول الله تعالى ((قُمْ فَأَنْذِرْ)) ولم يكتف بحفظه فقط، ولكن عمل به فورًا
في العالم الآن أكثر من مليار ملحد، فماذا فعلت أنت حتى يدخلوا الاسلام، ماذا فعلت حتى تنقذهم من النار ؟ الصين بها أكثر من نصف مليار ملحد، هل فكرت أن تتعلم اللغة الصينيه حتى تدعوهم الى الاسلام ؟
أعرف واحدة تعلمت ستة لغات حتى تعرف العالم بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
*********************************
الإنتقاء لمن يعرض عليه الإسلام
وبدأت الدعوة الى الاسلام في سرية، وكان هناك انتقاء واختيار دقيق لمن يعرض عليه الاسلام، فلا يعرض الاسلام الا على من يثقون به و يأمنوا شره
ولا يعرض الاسلام الا لمن يغلب على الظن أنه سيستجيب للدعوة، واذا لم يستجيب فانه سيحفظ السر
ولذلك فقط كانت خطوات الدعوة بطيئة جدًا وحذرة، وبرغم أن الدعوة السرية استمرت ثلاثة سنوات، فقد أسلم خلال هذه السنوات الثلاثة ستون رجلًا وامرأة فقط
وبرغم أن العدد يعتبر قليلًا جدًا، ولكنها كانت كلها شخصيات عظيمة بقوة ايمانها، ولذلك عندما آمن هذا العدد القليل جدًا مع الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نزل قول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
أما الآن فالمسلمون عددهم أكثر من مليار ونصف مليار مسلم، ولكنهم –كما أخبر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غثاءًا كغثاء السيل، يعنى لا قيمة لهم ولا وزن
كان هناك انتقاء واختيار دقيق لمن يعرض عليه الاسلام
رد على المتطاولين على الإسلام
كذلك مما يشار اليه أن أغلب من أسلم في هذه الفترة من الوجهاء والشرفاء، ولم يكن بينهم من الموالي سوي ثلاثة عشر رجلًا، لأن بعض المتطاولين على الاسلام يدعي أن دعوة الاسلام كانت ثورة على الأغنياء، أو هروبًا من حياة العبودية، وهذا غير صحيح لأن عدد الذين أسلموا في هذه الفترة من العبيد ثلاثة عشرة فقط، من بين ستون
*********************************
منهج الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في مرحلة الدعوة السرية
أيضًا كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحرص وهو في فترة الدعوة السرية على أن ينتشر الاسلام في سائر فروع قريش بصورة متوازنة، دون أن يكون هناك ثقل لعشيرة من العشائر حتى لا يثير حفيظة العشائر الأخري
فكان هؤلاء الستون موزعون على ستة عشر قبيلة، فمثلًا "أبو بكر" من "تيم" وعثمان من بنى أمية، وعلى من بنى هاشم، و"عبد الرحمن بن عوف" من بنى زهرة، و"سعيد بن زيد" من بدي عدي، وهناك من ليس من قريش مثل "أبو ذر"
وهكذا كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطط تخطيطًا دقيقًا جدًا ومنظمًا، ويحسب لكل خطوة حسابها
*********************************
صعوبة الدعوة السرية
كانت هذه المرحلة من الدعوة في غاية الصعوبة، وكانت الصعوبة تتمثل أولَا في صعوبة تلقي القرآن والتوجيهات ومطالب الدعوة من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يعنى أنا الآن اذا اسلمت فما المطلوب منى بالظبط ؟ هناك صعوبة في الالتقاء بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتحدث معه، وتلقي القرآن منه
وهناك صعوبة أيضًا في تنفيذ هذه الأوامر، فكان هناك صعوبة في اقامة الصلاة مثلًا أو قراءة القرآن، وكان المسلمون اذا أرادوا الصلاة يذهبون الى شعاب الجبال، ولذلك فقد كانت الصلاة في ذلك الوقت ركعتين في أول النهار وركعتين آخره، لصعوبة اقامة الصلاة
وبعض العلماء عندما يتحدث عن التدرج في التشريع يقول أن الصلاة فرضت أولًا ركعتين في أول النهار وركعتين آخره، قبل أن تفرض خمسة صلوات وقبل أن تزيد عدد ركعاتها، ونقول أن هذا غير صحيح، لأن قيام الليل فرض بعد ذلك لمدة ثم أصبح نافلة، ولو كانت الحكمة في الصلاة ركعتين أول النهار وركعتين آخره هوالتدرج لما فرض قيام الليل ثم أصبح نافلة
ولكن الحكمة كانت –كما ذكرنا- هي صعوبة اقامة الصلاة في ذلك الوقت من جهة، وحفاظًا على سرية الدعوة من جهة أخري
كان المسلمون اذا ارادوا الصلاة يذهبون الي شعاب الجبال
اعداد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتباعه في دار "الأرقم بن ابي الأرقم"
وكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلم أن سرية الدعوة هي مرحلة مؤقتة، ويعلم أنه سيأتي يومًا لابد فيه من الجهر بالدعوة، وأن هذه المرحلة سيكون لها شدتها وصعوبتها، فلابد للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من اعداد أتباعه لهذه المواجهة المرتقبة
ولذلك كانت هناك حاجة لأن يلتقي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كقائد مربي مع أصحابه، واختار الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دار "الأرقم بن أبي الأرقم" ليكون هو مكان هذه اللقاءات السرية الدورية، لأن الأرقم كان شابا صغيرًا عمره ستة عشر عامًا، ولأن الأرقم كان من بنى مخزوم وهي أكثر قبيلة متنافسة مع بنى هاشم، ولذلك فكان من المستبعد أن يشك أحد في أن يكون دار الأرقم هو مكان مثل هذه الاجتماعات
مكان دار الارقم في مكة قديما
نجاح مرحلة الدعوة السرية
مرت ثلاثة سنوات، هي عمر الدعوة السرية، ونجح الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نجاحًا كاملًا في تحقيق أهداف هذه المرحلة:
- أمن بالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عدد وان كان قليلًا نسبيًا، ولكنهم شخصيات متميزة وقادرة على حمل الرسالة
- الأسماء التى آمنت موزعة على جميع بطون قريش، ومنهم خارج قريش أيضًا
- قام الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باعداد هذه الكتيبة الأولى اعدادًا خاصًا ليؤهلهم للمرحلة التالية من مراحل الدعوة، وهي مرحلة الدعوة الجهرية، وما فيها من مواجهات شديدة الصعوبة