موسوعة السيرة الشريفة ف 44 : : القرآن المكى

  • أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة  

    الجُزْءُ الثَالِث: مِنْ نُزُول الوَحْي حَتَى الهِجْرَة (مَرْحَلَة الدَعْوَة المَكِيَة)

    الفصل الرابع والأربعون

    *********************************

    القرآن المكي

    متى نحن الآن ؟ وما هو الوضع الآن ؟

    مرت حوالى أربعة أعوام من البعثة، منهم ثلاثة أعوام من الدعوة السرية، وعام واحد من الدعوة الجهرية، وهذا العام الأخير كان مليئًا بالأحداث

          تعرض فيه ضعفاء المسلمون للتعذيب البشع حتى قتل البعض من شدة التعذيبا

          تعرض حتى السادة من قريش الذين أسلموا للتضييق الشديدة والاهانات، حتى وصل الأمر في كثير من الأحيان الى الإيذاء البدني

          الاسلام وأساسيات العقيدة تتعرض للتشويه من قريش

          الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتعرض لحملات تشويه لا تنتهي، حتى قالوا عنه أنه مجنون وأنه ساحر وأنه كاهن وأنه شاعر

          قريش تضيق على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا تعطي الفرصة لأحد حتى يستمع الى القرآن، ولا تعطي فرصة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  حتى يتحدث الى أحد، وقد رأينا كيف أن "أبو لهب" كان يسير خلف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكلما أراد أن يتحدث الى أحد من مكة أو من خارج مكة يقول هذا مجنون، هذا ابن أخي وأنا أعلم به، فيتركه الناس، ويقولون هذا عمه وهو أعلم به، وكان "عمر بن الخطاب" مثلًا –وكان لا يزال كافرًا في ذلك الوقت- يسير خلف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويخيف الناس وينهاهم عن التحدث الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  فلا يجرؤ أحد أن يتحدث أو يستمع الى حديث الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

          برغم كل هذا كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يبذل جهدًا جبارًا في الدعوة، ولا يتوقف عن الدعوة لحظة واحدة ، سواء دعوة قريش، أو دعوة من يأتي الى مكة من خارج قريش وخاصة في موسم الحج

    *********************************

    خصائص القرآن المكي

    يستمرنزول القرآن العظيم، وينقل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القرآن للمسلمين، ويقرأه على مشركي مكة، ويقف يصلى عند الكعبة ويقرأ القرآن حتى تسمع قريش هذا القرآن

    والقرآن المكي هو القرآن الذي قبل الهجرة، بينما القرآن المدني هو القرآن الذي نزل بعد الهجرة

    والقرآن المكي الذي قبل الهجرة له خصائص تميزه عن القرآن المدني

    فالقرآن المكي يعنى بأساسيات العقيدة الاسلامية من تأكيد وحدانية الله تعالى، والبعث بعد الموت، والحساب، والجنة والنار

    واهتم القرآن المكي أيضًا بذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة

    كما كان من خصائصه تثبيت قلب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودعوته الى الصبر وتحمل أذي المشركين

    كما اهتم القرآن المكي بالرد على مشركي قريش وتوعدهم بالعذاب اذا لم يدخلوا في الاسلام

    القران المكى له خصائص تميزه عن القران المدنى

    من أمثلة القرآن المكي

    فمثلًا يأتي رجل أسمه "أبي بن خلف الجمحي" بعظم رميم، يعنى عظم متفتت، الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقال: يا محمد، أتري الله يحي هذا بعد ما قد رم ؟ فنزل قول الله تعالى في سورة يس ((أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ۖ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ

    قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ

    وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ

    وكان أهل مكة يقولون أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقير، فكيف يكون نبي ومستجاب الدعوة وفقير، وكانوا يقولون أنه يأكل الطعام مثلهم، يعنى ليس ملكًا بل هو بشر، ويقولون أن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمشي في الأسواق، ويقولون هو يريد أن يكون ملكًا علينا، والملوك لا تمشي في الأسواق، فيقول تعالى

    * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا 

    *  أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلا مَّسْحُورًا 

    انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا 

    فيرد عليهم الله تعالى بقوله

    ((تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُورًا))

    وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا

    وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ

    ويقول مشركوا قريش للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله، فأنزل الله تعالى قوله ((وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)) قرطاس يعنى ورقة محسوسة، ويمسكونها بأيديهم، فالله تعالى يقول أنه حتى لو حقق لهم هذا المطلب، لقالوا أن الرسول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

    قد سحر أعينهم، كما حدث في مواقف أخري كثيرة مثل حادثة انشقاق القمر وغير ذلك

    *********************************

    وَما مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ

    وجاء أهل مكة الى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالوا له تزعم أنك نبي يوحي اليه، وأن سليمان سخر له الريح، وأن موسى سخر له البحر، وأن عيسي كان يحي الموتي، فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال، وأن يفجر الأرض لنا أنهار فنزرع ونأكل، وطلبوا منه أن يجعل لهم جبل الصفا ذهبا، فنزل قول الله تعالى ((وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ)) يعنى هذه الآيات التى طلبوها لو نفذها الله تعالى واستمرواعلى كفرهم، فسيهلكهم الله تعالى كما أهلك الأمم السابقة، ولذلك لم يرسل الله تعالى هذه الآيات لعلهم يؤمنون

    قال أهل مكة: ادع الله أن يسير عنا هذه الجبال

    معجزة انشقاق القمر

    ومع ذلك فقد تحققت معجزة مادية عظيمة جدًا، وهي أن أهل مكة طلبوا من الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يشق لهم القمر نصفين، فقال لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ان فعلت تؤمنوا، قالوا: نعم، فدعا الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يعطيه ما سألوا، وكانت ليلة بدر، فانشق القمر نصفين، فأخذ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينادي: يا بنى كذا اشهدوا، يا بنى كذا اشهدوا، فقال كفار قريش: سحرنا محمد

    ثم قال أبو جهل: ان كان سحرنا فانه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، ثم قال: اصبروا حتى تأتينا أهل البوادي، فان أخبروا بانشقاقه فهو صحيح، والا فقد سحر محمد أعيننا

    فجاء أهل البوادي وجاء المسافرون من اسفارهم، فاخبروهم أنهم في ليلة كذا في ساعة كذا انشق القمر نصفين، فقال المشركون: هذا سحر مستمر، يعنى سحر سيذهب ويضمحل وينتهي أمره

    دعا الرسول أن يعطيه ما سألوا، وكانت ليلة بدر، فانشق القمر نصفين

    والشجرة الملعونة في القرآن

    وعندما ينزل قول الله تعالى، يخوف أهل مكة من العذاب يوم القيامة ((أن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلى في البطون * كغلى الحميم)) يقول أبو جهل لأصحابه: هل تدرون ما هذا الزقوم الذي يخوفكم به محمد ؟ قالوا: لا قال: الثريد بالزبد، ويضحك لذلك هو وأصحابه

    فنزل قول الله تعالى ((والشجرة الملعونة في القرآن)) يعنى المذمومة، ثم يقول ((ونخوفهم فما يزيدهم الا طغيانًا كبيرا))

     

    إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ

    نزل كذلك في سورة الأنبياء قول الله تعالى ((إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)) يعنى هذه الأصنام التى تعبدونها ستكون في جهنم، تحمى بها نار جهنم، ويعذب بها أهل النار، فغضبت لذلك قريش، وقالوا: أيشتم آلهتنا ؟ فقال لهم "عبد الله ابن الزبعري" وكان أكبر شعراء قريش، وقد قال الكثير من الأشعار التى يهجو فيها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم أسلم وقال أيضَا الكثير من الأبيات التى يعتذر فيها للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 

    قال ابن الزبعري: ادعوه لى، ثم قال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عُبِدَ من دون الله ؟ فقال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بل لكل من عُبِدَ من دون الله، فقال له: ألست تزعم أن الملائكة عباد صالحون، وأن عيسي عبد صالح، وأن عزيرًا عبد صالح ؟ فقال: بلي، قال: فهذه بنو مليح يعبدون الملائكة، وهذه النصاري يعبدون عيسي، وهذه اليهود يعبدون عزيرًا

    فصاح أهل مكة فرحًا وهللوا لكلام ابن الزبعري، فنزل قول الله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ))

    ((إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى)) يعنى الملائكة وعيسي وعزير ((أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ))

    إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ

    عبس وتولى

    و لا يكف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن دعوة أهل مكة، ويقف يومًا يتحدث الى مجموعة من أغنياء مكة وشرفائهم، وفي اثناء حديثه اليهم يأتي اليه أحد فقراء المؤمنين كفيف البصر اسمه "عبد الله ابن أم مكتوم" ،  وأخذ يسأله عن أمور في الدين

    تحدث الرسول يومًا مع أشراف مكة فجاء اليه أحد فقراء المؤمنين

    والحقيقة أنه ليس من الأدب اذا كان شخص يتحدث الى شخص آخر أن يأتي شخص ثالث ويقطع هذا الحديث، بل ينبغي عليه أن ينتظر حتى ينتهوا من حديثهم، ولكن "ابن أم مكتوم" كان كفيفًا ولم ير الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يتحدث الى مشركي قريش، فعبس الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وجه "ابن أم مكتوم" وأعرض عنه، وهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعلم أن "ابن أم مكتوم" لا يري عبوسه، كما لا يري اعراضه عنه، ويعلم أن "ابن أم مكتوم" لن يتأذي بذلك لأنه كفيف

    ومع ذلك ينزل القرآن العظيم يعاتب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن عبوسه في وجه "عبد الله بن أم مكتوم" واعراضه عنه، حتى ولو لم ير "ابن أم مكتوم" عبوس النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واعراضه، لأنه ينبغي أن يكون سر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثل جهره

  • Facebook Twitter Google+


© Copyright 2015 Algazaly association powered by TD.COM.EG