أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الجزء الثاني: من ولادة الرسول حتى مبعثه –صلى الله عليه وسلم
الفصل الخامس والعشرون
على في بيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
"على بن أبي طالب" ينتقل الى بيت الرسول
عندما كان عمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ستة وثلاثون عامًا، أصاب المنطقة قحط، ومرت قريش بأزمة اقتصادية كبيرة، وتأثر بهذه الأزمة كثيرًا فقراء مكة، وكان منهم "أبو طالب" عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنه كان –كما ذكرنا من قبل- مثقلًا بالتزاماته كسيد من سادات قريش، وأهمها "الرفادة" يعنى هو المسئول عن اطعام الحجيج، وكان كذلك كثير العيال، ففكر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يساعد عمه "أبو طالب" في أن يحمل عنه عبأ بعض أبناءه، وذلكبأن يأخذ أحد أبناء "أبو طالب" ليربيه في بيته
اصاب المنطقة قحط , ومرت قريش بازمة اقتصادية كبيرة
لم يكتف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك بل ذهب الى أغنى أعمامه، وهو عمه العباس، وقال له: يا عباس إن أخاك كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى، فانطلق حتى نخفف عنه من عياله
والمعنى أن يأخذ كل منا أحد أبناء "أبو طالب" لينشأ في بيته، ويكون هو المسئول عن الانفاق عليه،
وكان هذا حلًا عمليًا، يحفظ لأبو طالب كرامته، لأن أبو طالب من سادة بنى هاشم، وهو المسئول عن "الرفادة" أي اطعام الحجيج، فليس من المقبول على الاطلاق أن يأخذ أي مساعدة من أي أحد
وبالفعل ذهبا الى "أبو طالب" وعرضا عليه الأمر، فوافق أبو طالب، ولكنه قال: اتركوا لي عقيلا و خذوا من شئتم، لأن "أبو طالب" كان مرتبطًا جدًا بإبنه "عقيل" وهكذا أخذ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "على بن أبي طالب" وأخذ العباس "جعفر بن أبي طالب"
"على" يتحدث عن حياته مع الرسول
كان عمر "على بن أبي طالب" حين انتقل الى بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ستة أعوام
ويتحدث على –رضى الله عنه- عن حياته في بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيقول "كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يضمنى الي صدره، ويكتنفني في فراشه"
موقف من أحد دور الأيتام
أذكر أنني كنت ألقي محاضرة على بعض الأطفال في أحد دور الأيتام عن حياة الإمام على، وبعد المحاضرة سألت الأطفال: ما هو الموقف الذي كنت تتمنى أن تكون فيه في حياة الإمام على ؟ فكانت الإجابات رائعة، وقال كثير منهم: كنت أتمنى أن أنام على فراش الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ليلة الهجرة حتى أفدي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنفسي، حتى قال لى أحد الأطفال في خجل اجابة تأثرت بها كثيرًا، قال لى كنت أتمنى أن يضمنى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى صدره في فراشه، كما كان يضم "على بن ابي طالب"
قال لى احد الاطفال بخجل اجابة تاثرت بها كثيرا
وعاش على بن أبي طالب في بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولذلك كان الإمام "على" بعد ذلك هو هذه الشخصية العظيمة، لأن الذي رباه وأدبه هو الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمنا السيدة خديجة
وفي نفس الوقت لم يكن الإمام "على" منعزلًا عن أبيه "ابي طالب" وأمه العظيمة السيدة "فاطمة بنت أسد" لأن بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان -كما قلنا- عند منطقة المروة، وهي قريبة جدًا من بيت أبو طالب، وهو عند مكتبة مكة المكرمة الآن
كذلك كان أخيه "جعفر بن أبي طالب" وهو في بيت "العباس" قريبا من أبيه وأمه، لأن بيت العباس في شعب أبي طالب، وبيت أبي طالب في رأس الشعب، فكأنهما في شارع واحد
فضائل شخصية الرسول في ضم على
وحين ضم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابن عمه "على" الي بيته يكشف عن عدة فضائل في شخصية الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أولًا: فضيلة الشعور بمعاناة الآخرين: لأن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يتأثر كثيرًا بالأزمة الإقتصادية التى كانت فيها قريش، ومع ذلك لم ينس أن عمه "أبو طالب" فقيرًا وكثير العيال، وأنه لا شك يعاني من هذه الأزمة الاقتصادية، فبادر لمساعدته بطريقة تحفظ له كرامته، وهذه فضيلة عظيمة، وهي فضيلة الاحساس بمعاناة الآخرين
تجد مثلًا فتاة لها صديقات، وكلهن يحلمن بالزواج والاستقرار والزوج الصالح، وعندما تتزوج تنسي صديقاتها، ولا تفكر في أن تساعدهن في الزواج عن طريق أصدقاء زوجها مثلًا
وتقول "امشي في جنازة ولا تمشي في زواجة" وهذا منطق أناني
تجد مجموعة شباب تخرجوا في الجامعة، ووفق الله تعالى أحدهم في عمل جيد، فينطلق في حياته وينسي أصحابه، ولا يفكر في أن يساعدهم هم أيضا في العمل مثلًا في الشركة التى عمل فيها
هذه الأثرة والأنانية ليست من أخلاق الإسلام، فالمسلم يجب أن يشعر بمعاناة الآخرين، يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به"
ما آمن بي: يعنى ايمانه ناقص، فهذا الذي لا يشعر بآلام ومعاناة جاره الذي يسكن الى جواره ناقص الايمان
ويقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم"من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم"
فهذا الذي يعيش يغلق على نفسه باب بيته، ولا يهتم الا بنفسه وعياله، ليس مسلمًا، يعنى ليس هو نموذج المسلم الصحيح
ما آمن بى من بات شبعان وجاره جائع الى جنبه وهو يعلم به
وحين ضم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابن عمه "على" الي بيته يكشف أيضا عن فضيلة "رد الجميل"
لأن "أبو طالب" عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى بيته منذ كان عمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثمانية أعوام، وظل في بيته حتى تزوج وعمره خمسة وعشرون عامًا، فرد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا الجميل الى عمه، وأخذ ابنه الصغير "على" وعمره ستة أعوام ليربيه هو أيضًا في بيته
للأسف هناك من اذا اسديت اليه أي معروف، يتهرب منك لأنك تذكره بحالة من حالات ضعفه واحتياجه، ولذلك قالوا "اتق شر من أحسنت اليه"
وهناك من يرد الجميل لكبر في نفسه، لأنه لا يتصور أن يكون اليد السفلي ولو لموقف واحد أو في مرحلة محددة في حياته، ويرفع اصبعه ويقول "أنا محبش حد يكون له جميل عليه"
وحين ضم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابن عمه "على" الي بيته يكشف أيضا عن فضيلة "الإيجابية"
فالرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكتف بأن يأخذ أحد أبناء أبو طالب، ولكن ذهب أيضا الى عمه العباس ودعاه الى هذا الأمر
والايجابية فضيلة عظيمة جدًا، والنهضة تتحقق بشخصيات ايجابية، ولا يمكن أن تتحقق بشخصيات سلبية
والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندما قال "اللهم أعز الاسلام بأحب العمرين اليك" يعنى عمرو بن هشام –أبو جهل- أو عمر بن الخطاب، لأن الصفة المميزة فيهما هي الايجابية، وعزة الاسلام لا تتحقق الا بشخص ايجابي، والشخصية السلبية التى تكتفي بأن تصلى وتقرأ القرآن لن تفيد الاسلام بأي شيء
لآن في بيت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والسيدة خديجة:
هند ابن السيدة خديجة من زوجها الأول، وهالة ابن السيدة خديجة من زوجها الثاني، وبنات الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: زينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة، ويوجد أيضًا "زيد بن حارثة" وكان اسمه وقتها "زيد بن محمد" وكان هناك "على بن أبي طالب" وهناك أيضا "بركة بنت ثعلبة" مربية الرسول
درس جديد من دروس سيرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
والآن يقترب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من سن الأربعون، وهو السن الذي سيبدأ فيه نزول الوحي على الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أربعون سنة كاملة من الإعداد للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أجل ثلاثة وعشرون سنة من الدعوة، لأن المهمة التى سينهض بها الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي أعظم مهمة في التاريخ، وهي مهمة أصلاح وانقاذ البشرية
وهذا درس هام جدًا من دروس سيرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو أنه حتى تحقق هدفك فلابد من الاعداد الجيد جدًا لتحقيق هذا الهدف، أما الاستعجال في الوصول للهدف فهذا سيعيدك الى نقطة الصفر، أو الى ما وراء نقطة الصفر
آفة كثير من الشباب هو الاستعجال، أذكر أن أحد رجال الأعمال قال لي أن الفارق بيننا وبين الألمان هو أن الذي نقوم به في ثلاثة دقائق ينجزونه في ثلاثة أيام
ولذلك تجد أن طفولة الانسان هي أطول مرحلة طفولة بين المخلوقات، تجد الحيوانات طفولتها لا تتعدي شهور أو أسابيع، وكثير من الأسماك والحشرات ليس لها مرحلة طفولة، لأن مهمة الانسان هي أصعب مهمة، ولذلك يحتاج الى أطول فترة للإعداد، أي يحتاج الى اطول مرحلة للطفولة
طفولة الانسان هى اطول مرحلة طفولة بين المخلوقات
أقول للشباب أنت الآن في سن الاعداد، والسن من عشرة الى عشرون عام هو أفضل سنوات التحصيل، ابذل اقصى جهد وأنت في هذا السن، لا تضيع دقيقة من وقتك، وكل العظماء مثل أحمد زويل ومجدي يعقوب وغيرهم، بذلوا جهدًا جبارًا في سن الشباب حتى تحقق لهم النجاح بعد ذلك
*******
الآن وصل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى سن الثامنة والثلاثون، وهو في آخر مرحلة من مراحل الاعداد، وهي مرحلة الاعداد الروحي، وزيادة الطاقة الروحية للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا ما سنتحدث عنه في الفصل القادم ان شاء الله تعالى