أسْرَار السَيرَةِ الشَرِيفَة- منهج حياة
الجزء الثاني: من ولادة الرسول حتى مبعثه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
ظل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قبيلة "بنى سعد بن بكر" عامين أو أكثر، وحدثت حادثة "شق الصدر" حيث جاء جبريل فشق صدر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخرج من قلبه علقة، أي قطعة دم متجمدة، وألقاها، وقال هذا حظ الشيطان منك، أي أن الله تعالى نقي قلب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من جميع أمراض القلوب، كالحقد والحسد والكبر والجبن والقسوة، وغير ذلك
خشيت حليمة وزوجها الحارث على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد حادثة شق الصدر فأعاداه الى أمه، وكانت سعادة السيدة آمنة بعودة وليدها اليها عظيمة
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
وبدأ الرسول حياته في مكة
كان عمر السيدة آمنة في ذلك الوقت حوالى ستة عشر عامًا، وعمر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حوالى عامين ونصف العام
كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طفلًا جميلًا بل شديد الجمال، كان وجهه كالقمر في ليلة البدر، وكان أبيض الوجه بحمرة، ناعم الشعر، يصل شعره الى كتفيه، أهدابه طويلة، لها عينان جميلتان لامعتان ينمان على الذكاء، دائم الإبتسام، فصيح اللسان، مطيع لأمه وجده وأعمامه، يحترم الأكبر منه سنًا، يخطف قلب كل من يراه
وبدأ الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حياته في مكة، بدأ يتعرف على أقرانه في مكة ويلعب معهم، وكان أقربهم اليه "حمزة" عمه وأخوه في الرضاعة، وكان في مثل عمره تقريبًا، وتعرف بعد ذلك على "أبو بكر" وكان أصغر منه بعامين
اكتشف الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا السن المبكرة أنه يتيم، ولم يشعر بهذا الأمر وهو في قبيلة "بنى سعد" لأن "الحارث بن عبد العزي" زوج السيدة "حليمة" كان للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمثابة الأب، وهو بالفعل أبوه من الرضاعة، وكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يناديه بأبي، و"الحارث" ينادي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بابني، ولكن عندما عاد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الى مكة اكتشف لأول مرة أنه يتيم ليس له أب، ولكنه كان محاطًا بحب أعمامه وحب جده "عبد المطلب" سيد قريش
بدأ الرسول حياته فى مكة
آمنة ترفض الزواج حتى تتفرغ لطفلها النبي
وتقدم للسيدة "أمنة" الكثير من قريش، يريدون الزواج منها، وكانت كما ذكرنا بنت سيد "بنى زهرة" وذات نسب وشرف في قومها، وكانت صغيرة في السن، ولكنها كانت ترفض الزواج، وكان هذا أمرًا مستغربًا عند العرب، لأن الرجل العربي كان يتزوج أكثر من امرأة وقد يتزوج عشرة من النساء وربما أكثر، ولذلك لم يكن واردًا أن تظل امرأة بلا زواج، ومع ذلك قررت "أمنة" ألا تتزوج لأنها كانت تشعر أن عليها مهمة جليلة جدًا، وهي التفرغ تمامًا لرعاية طفلها الصغير "محمد بن عبد الله" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كانت السيدة آمنة على يقين أن هذا الطفل سيكون له شأن، ليس فقط للرؤيا الواضحة جدًا التى رأتها أن نورًا يخرج منها يضيء العالم، ولا الرؤيا التى رآها جده "عبد المطلب" ولا لكاهنة قريش التى كلما نظرت اليها قالت لها: أنت النذيرة أو التى ستلد نذير، ولكن أيضًا للظروف التى أحاطت زواجها: لأن زوجها "عبد الله بن عبد المطلب" والد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-فداه الله تعالى بمائة من الإبل، وبعد أن فداه الله تعالى بمائة من الإبل تزوج السيدة "أمنة" ولم يبق معها الى عشرة أيام ثم سافر ومات في سفره، فكأن الله تعالى نجاه ليقوم بهذه المهمة الجليلة وهي أن تحمل السيدة آمنة بهذا الطفل، وبعد أن قام بهذا الأمر مات وكأن هذا كان دوره في الحياة
مرة ثانية: السيدة "أمنة" قررت ألا تتزوج لأنها كانت تشعر أن عليها مهمة جليلة جدًا، وهي التفرغ تمامًا لرعاية طفلها الصغير "محمد بن عبد الله" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ويقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك "أنا أول من يفتح باب الجنة، إلا أني أرى امرأة تبادرني، فأقول مالك ومن أنت؟ تقول: امرأة قعدت على أيتام لي
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
حنان السيدة آمنة
وكانت السيدة آمنة شديدة الرعاية والحنان على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا كان من طبيعة نساء قريش، يقول الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث رواه البخاري ومسلم "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على طفل، وأرعاه على زوج فى ذات يده" يعنى تحافظ على أمواله
فكان من اعداد الحق –سبحانه وتعالى- للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تكون أمه السيدة "أمنة" من قريش، ونساء قريش أكثر النساء حنانًا على أطفالهن، لأن الحنان على الطفل هام جدًا حتى ينشأ طفل سوي، وحاجة الطفل للمحبة تأتي في مقدمة الاحتياجات للأطفال، وحنان الأم يزيد من حجم منطقة في الدماغ هي المسئولة عن الذكاء
حنان الام هو اهم احتياجات الطفل
رحلة "آمنة" والرسول الى يثرب
كانت السيدة "أمنة" تعلم أن ابنها يتيم، ولذلك أحبت أن تربطه بأخواله "بنى النجار" في يثرب
وعندما نقول أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخواله "بنى النجار" في يثرب فليس معنى هذا أنهم أخوة أمه السيدة "أمنة" ولكنهم أخوال جده "عبد المطلب" لأن "عبد مناف" أبو "عبد المطلب" كان متزوجًا من "بنى النجار" في يثرب
الآن يكون هناك أبناء عمومة وأبناء خالة وليست بينهم أي علاقة، واذا رأي أحدهم الآخر في الطريق لا يعرفه
كانت السيدة "أمنة" سيدة ذكية، ولذلك أرادت أن تربط ابنها بأخوال جده في يثرب، بالرغم من أنه حفيد سيد قريش، وله في مكة اثنى عشر عم، وستة عمات
سبب آخر لرحلة "أمنة" وهو أنها تريد زيارة قبر زوجها المتوفي "عبد الله" وتريد أيضًا تزوير ابنها قبر أبيه
سعد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جدًا عندما أخبرته أمه بهذه الرحلة، وكان عمر الرسول-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ستة أعوام
❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇ ❇
كان هناك قافلة تجارية متجهة من "يثرب" الى الشام، ومرت على مكة، فقررت السيدة "آمنة" أن تنضم لهذه القافلة وهي في طريق عودتها من الشام الى يثرب
انتظرت "أمنة" القافلة حتى عادت الى مكة فانضمت اليها هي والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان معهما "بركة" وهي جاريتها التى ورثتها عن زوجها "عبد الله" وهي التى عرفت بعد ذلك باسم "أم أيمن" وقد كانت "بركة" هي حاضنة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أو ما يطلق عليها الآن المربية
انضمت آمنة والرسول الى القافلة المتجهة الى يثرب
وصلت "آمنة" والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و"بركة" الى "يثرب" واستقبلها أهل زوجها بالترحيب الشديد بها وبوليدها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونزلوا في دار "النابغة الصغري" وهي الدار الذي دفن فيه "عبد الله" والد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قضى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أيامًا جميلًا في "يثرب" كانت من أجمل أيام طفولة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعلم فيها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- السباحة في أحد آبار "يثرب" والسباحة في البئر هي أصعب أنواع السباحة
وظل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتذكر هذه الأيام الجميلة حتى أنه عندما هاجر الى "يثرب" بعد ذلك، مر أمام دار "النابغة الصغري" وقال "ههنا نزلت بي أمي، وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار"
قضى الرسول اياما جميلة في يثرب
العودة من يثرب ووفاة آمنة
وظلت آمنة والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و"بركة" شهرًا كاملًا في يثرب، حتى قررت "أمنة" العودة مع قافلة تجارية متجهة الى مكة
ولكن في منتصف الطريق تقريبًا بين "يثرب" و"مكة" هبت على القافلة عاصفة حارة قوية عاتية، في جو الصيف الملتهب، فتوقفت القافلة عدة أيام حتى تهدأ العاصفة
هبت علي القافلة عاصفة حارة قوية
ولكن شعرت "آمنة" بعد انتهاء العاصفة بألم شديد وضعف في جسدها، وازدادت عليها الآلام وشعرت بدنو أجلها، فقالت تتحدث الى جاريتها
يا بركة ما أراها الا منيتي قد قدمت، فالله الله في محمد، لا تدعينه يضل الطريق، ولا تتركيه لقاطع طريق يأخذه فيبيعه عبدًا فهو حر وابن حر، ان محمد أمانه عندك حتى تسلميه لعبد المطلب
ثم أخذت الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حضنها، وضمته ضمًا شديدًا، وبكت، ليس لفراق الدنيا، ولكن لفراق ابنها اليتيم الحبيب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشفقة عليه وهو يفقد الآن أمه وهو ابن ست سنوات، وقد فقد من قبل أباه وهو لا يزال جنينًا في بطن أمه، وبكي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبكاء أمه، وأخذ يمسح دموعها بيده الصغيرة الشريفة
نظرت "آمنة" الى وليدها نظرة حملت فيها كل الحب، وقالت له وكأنها تعزيه بصوت واهن ضعيف
"كـل جـديد بـال؛ وكـل كـبير يفنى؛ وكـل حــى ميت، وأنا ميتـة وذكــرى بـاق، فقـد تركــت خــيراً، وولــدت طهـــراً"
تراخت يد "أمنة" التى كانت تحتضن بها النبي، وماتت، وخيم على القافلة صمت وسكون، لا يقطعه الا بكاء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو ينادي على أمه أن تجيبه وتحتضنه كما كانت تفعل من قليل
واحتضنته "بركة" وهي تبكي بكاءًا مرًا
أغمضت "بركة" عينى السيدة "أمنة" وكفنتها، وحملت الجثة الى قرية "الأبواء" القريبة، والرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتبعها مطرقًا واجمًا حزينًا، ودفنها القوم، وعلا نحيب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يحاول
أن يتشبث بأمه، وبكت القافلة جميعًا تأثرًا بهذا المشهد
قبر السيدة آمنة
وبعد هذا المشهد بأربعة وخمسين سنة، أي أكثر من نصف قرن من الزمان، في عمرة القضاء، في السنة السابعة من الهجرة
خرج النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تحت جنح الظلام الى" الأبواء" وانحاز الى موضع هناك يعرفه جيداً، وساوي الرمل بيده الشريفة، وسقى الرمل بدمعه، ولحق به بعض أصحابه، ويقول له عمر بن الخطاب: ما يبكيك يارسول الله ؟
فيقول النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ان القبر الذى رأيتمونى أجلس، انه قبر أمى؛ اخذتنى رحمة بها فبكيت
صورة قديمة لمكان دفن السيدة آمنة
عودة الرسول وحيدًا الى مكة
عادت القافلة الى "مكة" و "محمد" مطرقًا حزينًا مستسلمًا
واستقبله جده "عبد المطلب" وهو يحبس دموعه شفقة على حفيده الذي فقد أمه بعد أن فقد أبيه
وانتقل الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ذلك لكفالة جده "عبد المطلب
عادت القافلة الي مكة ومحمد مطرقا حزينا